الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إظهار الحق (نسخة منقحة)
.(الفائدة الثانية): وقال وليم ميور في الباب الثالث من تاريخ كليسيا المطبوع سنة 1848: (القدماء المسيحية ما كان عندهم عقيدة مكتوبة من عقائد الإيمان التي اعتقادها ضروري للنجاة وكانت تعلم للأطفال وللذين كانوا يدخلون في الملة المسيحية تعليمًا لسانيًا، وهذه العقائد كانت متحدة قربًا وبعدًا، ثم لما ضبطوها بالكتابة وقابلوها وجدوها مطابقة وما وجدوا فيها غير الاختلاف القليل اللفظي وما كان فرق في أصل المطلب) انتهى كلامه، فعلم أن الأمر الذي يكون مهتمًا بشأنه يكون محفوظًا ولا يتطرق فيه خلل بمرور مدة طويلة، وهذا الأمر ظاهر في القرآن وقد مضت مدة ألف ومائتين وثمانين سنة وهو كما أنه محفوظ بواسطة الكتابة في كل قرن فكذلك محفوظ في كل قرن أيضًا بواسطة صدور ألوف من الرجال، وأكثر فرق المسيحيين في هذا الزمان أيضًا بحيث لو لاحظنا حال كبار علمائهم وخواصهم فضلًا عن عوامهم، وجدناهم أنه لا يحصل لهم تلاوة كتبهم المقدسة، قال المعلم ميخائيل مشاقة من علماء بروتستنت في خاتمة كتابه المسمى بالدليل إلى طاعة الإنجيل المطبوع سنة 1849 في الصفحة 316: (أنني ذات يوم سألت كاهنًا) من كهنة كاتلك (أن يجيبني بالصدق عن مطالعة الكتاب المقدس وكم مرة قرأه في مدة حياته فقال إنه كان يقرأ أحيانًا وربما جملة أسفار لم يقرأها ولكن منذ اثنتي عشرة سنة لأجل انهماكه في خدمة الرعية لم يبق له فرصة المطالعة فيه، ولا يخلو أن كثيرين من الشعب يعرفون جهالة هؤلاء الاكليرس ولكنهم مع ذلك ينقادون إلى إرشادهم في المنع عن مطالعة الكتب المفيدة التي ترشدهم إليها) انتهى كلامه بلفظه. .(الفائدة الثالثة): وينقسم الحديث الصحيح إلى ثلاثة أقسام: (1) متواتر. (2) ومشهور. (3) وخبر الواحد. فالمتواتر ما نقله جماعة عن جماعة لا يجوز العقل توافقهم على الكذب، مثاله كنقل أعداد ركعات الصلاة ومقادير الزكاة ونحوهما. والمشهور ما كان في عصر الصحابة كأخبار الآحاد ثم اشتهر في عصر التابعين أو عصر تبع التابعين وتلقته الأمة بالقبول في أحد العصرين الأخيرين فصار كالمتواتر، كالرجم في باب الزنا. وخبر الواحد ما نقله واحد عن واحد أو واحد عن جماعة أو جماعة عن واحد، والمتواتر منها يوجب العلم القطعي ويكون إنكاره كفرًا، والمشهور يوجب علم الطمأنينة ويكون إنكاره بدعة وفسقًا، وخبر الواحد لا يوجب أحد العلمين المذكورين ويعتبر في العمل لا في إثبات العقائد وأصول الدين. وإذا خالف الدليل القطعي عقليًّا كان أو نقليًّا يؤول إن أمكن التأويل، وإلا يترك ولا يعمل بالدليل العقلي. والفرق بين الحديث الصحيح والقرآن بثلاثة أوجه: الأول أن القرآن كله منقول بالتواتر كما نزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما بدل ناقلوه لفظًا بلفظ آخر مرادف له، بخلاف الحديث الصحيح لأن نقله بالمعنى أيضًا كان جائزًا للناقل الثقة الماهر بلغة العرب وأسلوب كلامهم، والثاني أن القرآن لما كان كله متواترًا يلزم الكفر بإنكار جملة منه أيضًا بخلاف الحديث الصحيح فإنه لا يلزم الكفر إلا بإنكار قسم منه وهو المتواتر دون المشهور وخبر الواحد، والثالث أن الأحكام تتعلق بألفاظ القرآن ونظمه أيضًا كصحة الصلاة وكون عبارته معجزة، بخلاف الحديث فإنه لا تتعلق الأحكام بألفاظه. وإذا عرفت ما ذكرت في الفوائد الثلاثة تحقق لك أنه لا يلزم من اعتبارنا الحديث الصحيح بالطريق المذكور شيء من القبائح والاستبعادات. .الفصل الرابع: في دفع شبهات القسيسين الواردة على الأحاديث: .(الشبهة الأولى): وكذا وعدهم: (أن من ترك لأجلي ولأجل الإنجيل شيئًا يجد مائة ضعف الآن في هذا الزمان ويجد الحياة الأبدية في الدهر الآتي)، كما هو مصرح به في الباب العاشر من إنجيل مرقس، وكذا وعد بأشياء أخر، فتيقنوا أنهم يصيرون سلاطين يحكم كل منهم على سبط من أسباط إسرائيل وإن فات منهم شيء لأجل اتباعه يحصل لهم في هذه الدنيا بدله مائة ضعف هذا الشيء، ورسخ في أذهانهم هذا الأمر حتى طلب يعقوب ويوحنا ابنًا زيدي، أو طلبت أمهما- على اختلاف رواية الإنجيلين- منصب الوزارة العظمى بأن يجلس أحدهما على يمين عيسى عليه السلام والآخر على يساره في ملكوته كما هو مصرح به في الباب العشرين من إنجيل متى، والباب العاشر من إنجيل مرقس، لكنهم لما رأوا أنه لم تحصل لهم السلطنة الخيالية ولا مائة ضعف في هذه الدنيا بل لم يحصل له أيضًا شيء من الدولة الدنياوية وهو مسكين كما كان يخاف من اليهود ويفر من موضع إلى موضع، ورأوا أن اليهود في صدد أن يأخذوه ويقتلوه تنبهوا أن فهمهم كان خطأ والمواعيد المذكورة كسراب يحسبه الظمآن ماء، فرضي واحد منهم بدل هذه السلطنة الخيالية وهذه الأضعاف الموهومة بثلاثين درهمًا أخذها من اليهود على شرط تسليمه لهم، وتركه سائرهم حين ما أخذه اليهود وفروا وأنكروه ثلاث مرات، ولعنه أرشد الحواريين وأعظمهم الذي كان مبنى كنيسة وراعي خرافه وخليفته أعني حضرة بطرس، وحلف أني لا أعرفه، وصاروا آيسين مطلقًا من متخيلاتهم بعد ما صلب على زعمهم ثم لما رأوه مرة أخرى بعد القيام رجع رجاؤهم مرة أخرى وظنوا أنهم يصيرون سلاطين في هذه المرة فسألوه مجتمعين في وقت صعوده قائلين: هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل، (كما هو مصرح به في الباب الأول من كتاب الأعمال) وبعد الصعود وقعوا في خيال آخر هو أعظم من السلطنة الدنياوية التي لم تحصل لهم إلى زمان الصعود، وهو أن المسيح ينزل في عهدهم من السماء، وأن القيامة قريبة كما عرفت مفصلًا من الفصل الثالث والرابع من الباب الأول، وأنه بعد نزوله يقتل الدجال ويحبس الشيطان إلى ألف سنة، وأنهم يجلسون على الأسرة بعد نزوله ويعيشون عيشة مرضية إلى المدة المذكورة في هذه الدنيا، كما يفهم من الباب التاسع عشر والعشرين من كتاب المشاهدات، والآية الثانية من الباب السادس من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس ثم يحصل لهم السرور الدائمي في الجنة إلى الأبد عند القيامة الثانية، فلأجل هذه الأمور بالغوا في مدحه وتقرير حالاته كما قال الإنجيلي الرابع في آخر إنجيله، (إن أشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب) ولا شك أنه كذب محض ومبالغة شاعرية قبيحة فكانوا يبالغون بأمثال هذه الأقوال ليوقعوا السفهاء في شبكاتهم حتى ماتوا غير واصلين إلى مرادهم، فلا اعتبار لشهادتهم في حقه، وهذا التقرير على سبيل الإلزام لا الاعتقاد كما صرحت به مرارًا. فكما أن هذا الاحتمال في حق عيسى وحواريه الحقة عليهم السلام ساقط فكذلك احتمالهم في حق أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم ساقط. وقد يشير القسيسون لأجل تغليط العوام إلى ما يتفوه به الفرقة الإمامية الاثني عشرية في حق الصحابة رضي اللّه عنهم أجمعين، والجواب عنه إلزامًا وتحقيقًا هكذا إما إلزامًا فلأن موشيم المؤرخ قال في المجلد الأول من تاريخه: (إن الفرقة الأبيونية التي كانت في القرن الأول كانت تعتقد أن عيسى عليه السلام إنسان فقط تولد من مريم ويوسف النجار مثل الناس الآخرين وطاعة الشريعة الموسوية ليست منحصرة في حق اليهود فقط، بل تجب على غيرهم أيضًا والعمل على أحكامه ضروري للنجاة. ولما كان بولس ينكر وجوب هذا العمل ويخاصمهم في هذا الباب مخاصمة شديدة كانوا يذمونه ذمًا شديدًا ويحقرون تحريراته تحقيرًا بليغًا) انتهى. وقال لاردنر في الصفحة 376 من المجلد الثاني من تفسيره: (إن القدماء أخبرونا أن هذه الفرقة كانت ترد بولس ورسائله) انتهى. وقال بل في تاريخه في بيان هذه الفرقة: (هذه الفرقة كانت تسلم من كتب العهد العتيق التوراة فقط وكانت تنفر من اسم داود وسليمان وأرمياء وحزقيال عليهم السلام، وكان من العهد الجديد عندها إنجيل متى فقط لكنها كانت حرفته في كثير من المواضع وأخرجت البابين الأولين منه) انتهى. وقال في تاريخه في بيان الفرقة المارسيونية: (إن هذه الفرقة كانت تعتقد أن الإله إلهان أحدهما خالق الخير وثانيهما خالق الشر وكانت تقول التوراة وسائر كتب العهد العتيق من جانب الإله الثاني وكلها مخالف للعهد الجديد ثم قال إن هذه الفرقة كانت تعتقد أن عيسى نزل الجحيم بعد موته وأنجى أرواح قابيل وأهل سدوم من عذابها لأنهم حضروا عنده وما أطاعوا الإله خالق الشر وأبقى أرواح هابيل ونوح وإبراهيم والصالحين الآخرين في الجحيم، لأنهم كانوا خالفوا الفريق الأول. وكانت تعتقد أن خالق العالم ليس منحصرًا في الإله الذي أرسل عيسى، ولذلك ما كانت تسلم أن كتب العهد العتيق إلهامية وكانت تسلم من العهد الجديد إنجيل لوقا فقط لكنها ما كانت تسلم البابين الأولين منه وكانت تسلم من رسائل بولس عشرة رسائل لكنها كانت ترد ما كان مخالفًا لخيالها) انتهى. ونقل لاردنر في المجلد الثالث من تفسيره قول اكستائن في بيان فرقة ماني كبز هكذا: (هذه الفرقة تقول أن الإله الذي أعطى موسى التوراة وكلم الأنبياء الإسرائيلية ليس بإله بل شيطان من الشياطين، وتسلم بكتب العهد الجديد، لكنها تقر بوقوع الإلحاق فيها وتأخذ ما رضيت به وتترك الباقي وترجح بعض الكتب الكاذبة عليها وتقول إنها صادقة البتة) ثم قال لاردنر في المجلد المذكور: (اتفق المؤرخون أن هذه الفرقة كلها ما كانت تسلم الكتب المقدسة للعهد العتيق في كل وقت). وكتب في أعمال اركلاس عقيدة هذه الفرقة هكذا: (خدع الشيطان أنبياء اليهود، والشيطان كلم موسى وأنبياء اليهود وكانت تتمسك بالآية الثامنة من الباب العاشر من إنجيل يوحنا بأن المسيح قال لهم سراق ولصوص وكانت أخرجت العهد الجديد) انتهى، وهكذا حال الفرق الأخرى، لكني اكتفيت في نقل مذاهب الفرق الثلاثة المذكورة على عدد التثليث وأقول هل تتم أقوال هذه الفرق على علماء بروتستنت أم لا فإن تمت فيلزم عليهم الاعتقاد بهذه الأمور العشرة: (1) أن عيسى عليه السلام إنسان فقط تولد من يوسف النجار. (2) وأن العمل على أحكام التوراة ضروري للنجاة. (3) وأن بولس شرير ورسائله واجبة الرد. (4) وأن الإله إلهان خالق الخير وخالق الشر. (5) وأن أرواح قابيل وأهل سدوم حصل لها النجاة من عذاب جهنم بموت عيسى عليه السلام وأرواح هابيل ونوح وإبراهيم والصلحاء القدماء معذبة في جهنم بعد موته أيضًا. (6) وأن هؤلاء كانوا مطيعين للشيطان. (7) وأن التوراة وسائر كتب العهد العتيق من جانب الشيطان. (8) وأن الذي كلم موسى والأنبياء الإسرائيلية ليس بإله بل شيطان. (9) وأن كتب العهد الجديد وقع فيها التحريف بالزيادة. (10) وأن بعض الكتب الكاذبة صادقة البتة وإن لم تتم أقوال هذه الفرق عليهم فلا يتم قول بعض الفرق الإسلامية على جمهور أهل الإسلام سيما إذا كان هذا القول مخالفًا للقرآن ولأقوال الأئمة الطاهرين رضي اللّه عنهم أيضًا كما ستعرف. وإذا عرفت هذا فأقول إن القرآن ناطق بأن الصحابة الكبار رضي اللّه عنهم لم يصدر عنهم شيء يوجب الكفر ويخرجهم عن الإيمان. 1- قال اللّه تعالى في سورة التوبة: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي اللّه عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ذلك الفوز العظيم} فقال اللّه في حق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار أربعة أمور: (الأول) رضوانه عنهم (والثاني) رضوانهم عنه. (والثالث) تبشيرهم بالجنة (والرابع) وعد خلودهم فيها. ولا شك أن أبا بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذا النورين رضي اللّه عنهم من السابقين الأولين من المهاجرين، كما أن أمير المؤمنين عليًّا رضي اللّه عنه منهم فثبت لهم هذه الأمور الأربعة وثبت صحة خلافتهم، فقول الطاعن في الثلاثة رضي اللّه عنهم مردود، كما أن قول الطاعن في حق الرابع رضي اللّه عنه مردود. 2- وقال اللّه تعالى في سورة التوبة أيضًا: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند اللّه وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدًا إن اللّه عنده أجر عظيم} فقال اللّه في حق المؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم أربعة أمور: (الأول) كون درجتهم أعظم عند اللّه (والثاني) كونهم فائزين بمرادهم (والثالث) كونهم مبشرين بالرحمة والرضوان والجنات (والرابع) خلودهم في الجنات أبدًا، وأكد الأمر الرابع غاية التأكيد بثلاث عبارات أعني قوله {مقيم}، وقوله {خالدين فيها أبدًا}، وقوله {أجر عظيم}، ولا شك أن الخلفاء الثلاثة رضي اللّه عنهم من المؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم، كما أن عليًّا رضي اللّه عنه منهم فثبت لهم الأمور الأربعة. 3- وقال اللّه تعالى في سورة التوبة أيضًا: {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد اللّه لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم} فقال اللّه في حق المؤمنين المجاهدين أربعة أمور: (الأول) كون الخيرات لهم (والثاني) كونهم مفلحين (والثالث) وعد الجنات (والرابع) خلودهم فيها. ولا شك أن الثلاثة رضي اللّه عنهم من المؤمنين المجاهدين فثبت هذه الأمور الأربعة لهم. 4- وقال اللّه تعالى في سورة التوبة أيضًا: {إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل اللّه فيَقتلون ويُقتلون وعدًا عليه حقًّا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من اللّه فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود اللّه وبشر المؤمنين} فوعد اللّه الجنة للمؤمنين المجاهدين وعدًا موثقًا وذكر تسعة أوصاف لهم فثبت أنهم كانوا كذلك ويفوزون بالجنة. 5- وقال اللّه في سورة الحج: {الذين إن مكنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وللَّه عاقبة الأمور} فقوله: {الذين إن مكناهم} صفة لمن تقدم وهو قوله {الذين أخرجوا}، فيكون المراد به المهاجرين لا الأنصار لأنهم ما أخرجوا من ديارهم فوصف اللّه المهاجرين بأنه إن مكنهم في الأرض وأعطاهم السلطنة أتوا بالأمور الأربعة وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن قد ثبت أن اللّه مكن الخلفاء الأربعة رضي اللّه عنهم في الأرض، فوجب كونهم آتين بالأمور الأربعة، وإذا كانوا كذلك ثبت كونهم على الحق، وفي قوله: {للّه عاقبة الأمور} دلالة على أن الذي تقدم ذكره من تمكينهم في الأرض كائن لا محالة، ثم إن الأمور ترجع إلى اللّه تعالى بالعاقبة فإنه هو الذي لا يزول ملكه. 6- وقال اللّه تعالى في سورة الحج: {وجاهدوا في اللّه حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا باللّه هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} فسمى اللّه في هذه الآية الصحابة بالمسلمين. 7- وقال اللّه تعالى في سورة النور: {وعد اللّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} ولفظ (من) في قوله {منكم} للتبعيض وكم ضمير الخطاب فيدلان على أن المراد بهذا الخطاب بعض المؤمنين الموجودين في زمان نزول هذه السورة لا الكل، ولفظ الاستخلاف يدل على أن حصول ذلك الوعد يكون بعد الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومعلوم أنه لا نبي بعده لأنه خاتم الأنبياء، فالمراد بهذا الاستخلاف طريقة الإمامة، والضمائر الراجعة إليهم في قوله: {ليستخلفنهم} إلى قوله: {لا يشركون} وقعت كلها على صيغة الجمع، والجمع حقيقة لا يكون محمولًا على أقل من ثلاثة، فتدل على أن هؤلاء الأئمة الموعود لهم لا يكونون أقل من ثلاثة وقوله: {ليمكنن لهم} إلى آخره وعد لهم بحصول القوة والشوكة والنفاذ في العالم فيدل على أنهم يكونون أقوياء ذوي شوكة، نافذ أمرهم في العالم، وقوله: {دينهم الذي ارتضى لهم} يدل على أن الدين الذي يظهر في عهدهم هو الدين المرضي للّه وقوله: {ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا} يدل على أنهم في عهد خلافتهم يكونون آمنين غير خائفين، ولا يكونون في الخوف والتقية، وقوله {يعبدونني لا يشركون بي شيئًا} يدل على أنهم في عهد خلافتهم أيضًا يكونون مؤمنين لا مشركين. فدلت الآية على صحة إمامة الأئمة الأربعة رضي اللّه عنهم سيما الخلفاء الثلاثة أعني أبا بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذا النورين رضي اللّه عنهم، لأن الفتوحات العظيمة والتمكين التام وظهور الدين والأمن الذي كان في عهدهم لم يكن في عهد أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه لاشتغاله بمحاربة أهل الصلاة في عهده الشريف، فثبت أن ما يتفوه به الشيعة في حق الثلاثة رضي اللّه عنهم أو الخوارج في حق عثمان وعلي رضي اللّه عنهما قول غير قابل للالتفات. 8- وقال اللّه تعالى في سورة الفتح في حق المهاجرين والأنصار الذين كانوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في صلح الحديبية: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان اللّه بكل شيء عليمًا} فقال في حقهم أربعة أمور: (الأول) إنهم شركاء للرسول في نزول السكينة. (والثاني) إنهم مؤمنون. (والثالث) إن كلمة التقوى لازمة غير منفكة عنهم. (والرابع) إنهم كانوا أحق بكلمة التقوى وأهلها، ولا شك أن أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما في هؤلاء المهاجرين فثبت لهما ولسائرهم هذه الأمور الأربعة، ومن اعتقد في حقهم غير هذه فعقيدته باطلة مخالفة للقرآن. 9- وقال اللّه تعالى أيضًا في سورة الفتح: {محمد رسول اللّه والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلًا من اللّه ورضوانًا سيماهم في وجوههم من أثر السجود}. فمدح الصحابة بكونهم أشداء على الكفار رحماء فيما بينهم وكونهم راكعين، وساجدين، ومبتغين فضل اللّه ورضوانه، فمن اعتقد من مدعي الإسلام في حقهم غير هذا فهو مخطئ. 10- وقال اللّه تعالى في سورة الحجرات: {ولكن اللّه حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون}. فعلم أن الصحابة كانوا محبي الإيمان كارهي الكفر والفسق والعصيان وكانوا راشدين، فاعتقاد ضد هذه الأشياء في حقهم خطأ. 11- وقال اللّه تعالى في سورة الحشر: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلًا من اللّه ورضوانًا وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}. فمدح اللّه المهاجرين والأنصار بستة أوصاف: (الأول) أن هجرة هؤلاء المهاجرين ما كانت لأجل الدنيا بل كانت لأجل ابتغاء مرضات اللّه. (والثاني) أنهم كانوا ناصرين لدين اللّه ورسوله. (والثالث) أنهم كانوا صادقين قولًا وفعلًا. (والرابع) أن الأنصار كانوا يحبون من هاجر إليهم. (والخامس) إنهم كانوا يسرون إذا حصل شيء للمهاجرين. (والسادس) أنهم كانوا يقدمونهم على أنفسهم مع احتياجهم، وهذه الأوصاف الستة تدل على كمال الإيمان ومن اعتقد في حقهم غير هذا فهو مخطئ وهؤلاء الفقراء من المهاجرين كانوا يقولون لأبي بكر رضي اللّه عنه يا خليفة رسول اللّه واللّه يشهد على كونهم صادقين فوجب أن يكونوا صادقين في هذا القول أيضًا ومتى كان الأمر كذلك وجب الجزم بصحة إمامته. 12- وقال اللّه تعالى في سورة آل عمران: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه}. فمدح اللّه الصحابة بثلاثة أوصاف: (الأول) أنهم خير أمة. (والثاني) أنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. (والثالث) أنهم كانوا مؤمنين باللّه، وهكذا الآيات الأخر لكني لخوف التطويل أكتفي على اثني عشر موضعاُ على عدد الحواريين لعيسى عليه السلام وعدد الأئمة الطاهرين الاثني عشر رضي اللّه عنهم أجمعين. وأنقل خمسة أقوال من أقوال أهل البيت عليهم السلام على عدد الخمسة الطاهرين عليهم السلام. (1) في نهج البلاغة الذي هو كتاب معتبر عند الشيعة قول علي رضي اللّه عنه هكذا: (للَّه در فلان فلقد 1: قوم الأود، 2: وداوي العمد، 3: وأقام السنة، 4: وخلف البدعة، 5: ذهب نقي الثوب، 6: قليل العيب، 7: أصاب خيرها، 8: وسبق شرها، 9: أدى إلى اللّه طاعته، 10: واتقاه بحقه رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي فيه الضال ويستيقن المهتدي) انتهى. والمراد بفلان على مختار أكثر الشارحين منهم البحراني، أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه وعلى مختار بعض الشارحين عمر الفاروق رضي اللّه عنه، فذكر علي رضي اللّه عنه عشرة أوصاف من أوصاف أبي بكر أو عمر رضي اللّه عنه فلا بد من وجودها، ولما ثبتت هذه الأوصاف له بعد مماته بإقرار علي رضي اللّه عنه فما بقي في صحة خلافته شك. (2) وفي كشف الغمة الذي هو تصنيف علي بن عيسى الأردبيلي الاثني عشري الذي هو من الفضلاء المعتمدين عند الإمامية (سئل الإمام جعفر عليه السلام عن حلية السيف هل يجوز، فقال: نعم قد حلى أبو بكر الصديق سيفه، فقال الراوي: أتقول هكذا، فوثب الإمام عن مكانه فقال: نعم الصديق نعم الصديق نعم الصديق- فمن لم يقل له الصديق فلا صدق اللّه قوله في الدنيا والآخرة). فثبت بإقرار الإمام الهمام أن أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه صديق حق، منكره كاذب في الدنيا والآخرة. (3) ووقع في بعض مكاتيب علي رضي اللّه عنه على ما نقل شارحو نهج البلاغة في حق أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما هكذا: (لعمري إن مكانهما من الإسلام لعظيم وإن المصاب بهما لحرج في الإسلام شديد، رحمهما اللّه وجزاهما اللّه بأحسن ما عملا). (4) ونقل صاحب الفصول الذي هو من كبار علماء الإمامية الاثني عشرية عن الإمام الهمام محمد الباقر رضي اللّه عنه هكذا: (إنه قال لجماعة خاضوا في أبي بكر وعمر وعثمان: ألا تخبروني أنتم من المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلًا من اللّه ورضوانًا وينصرون اللّه ورسوله؟ قالوا: لا. قال: فأنتم من الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم؟ قالوا: لا. قال: أما أنتم فقد برئتم أن تكونوا أحد هذين الفريقين وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال اللّه تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}). فالخائض في الصديق والفاروق وذي النورين رضي اللّه عنهم خارج عن الفرق الثلاث الذين مدحهم اللّه بشهادة الإمام الهمام رضي اللّه عنه. وفي التفسير المنسوب إلى الإمام الهمام الحسن العسكري رضي اللّه عنه وعن آبائه الكرام: (إن اللّه أوحى إلى آدم ليفيض على كل واحد من محبي محمد وآل محمد وأصحاب محمد ما لو قسمت على كل عدد ما خلق اللّه من طول الدهر إلى آخره وكانوا كفارًا لأداهم إلى عاقبة محمودة وإيمان باللّه حتى يستحقوا به الجنة. وإن من يبغض آل محمد وأصحابه أو واحدًا منهم يعذبه اللّه عذابًا لو قسم على مثل خلق اللّه لأهلكهم أجمعين). فعلم أن المحبة ما يكون بالنسبة إلى الآل والأصحاب رضي اللّه عنهم لا بالنسبة إلى أحدهما وإن بغض واحد من الآل والأصحاب كاف للهلاك. نجانا اللّه من سوء الاعتقاد في حق الصحابة والآل رضوان اللّه عليهم أجمعين وأماتنا على حبهم، ونظرًا إلى الآيات الكثيرة والأحاديث الصحيحة اتفق أهل الحق على وجوب تعظيم الصحابة رضي اللّه عنهم.
|